26 - 06 - 2024

تباريح| خطاب أخير إلى الرئيس قبل الاستفتاء

تباريح| خطاب أخير إلى الرئيس قبل الاستفتاء

هذا خطاب من القلب لن يكتبه لك أحد غيري، وضعتك الأقدار في موضع الحاكم ووضعتني في موضع الناصح رغما عني، ولذلك سأكون بالغ الصدق غير هياب، آملا أن يتسع صدرك، وآملا ألا تستنكر علي جرأتي، فأنا واحد من أبناء وطنك الذي تحكم، ولي حق دستوري وقانوني ووطني يتيح أن أخاطبك.

ولأني ابن الجيل الذي تنتمي إليه، فقد عشت انتصارات وانكسارات هذا الوطن مثلك، وإن كنت عشتها من موقع مختلف عن موقعك، أحلم مثلك أن نعيش في وطن يسود العالم ويضيء المشاعل للبشرية ليس فقط بتاريخه الناصع ومجده الزاهر، وإنما بحريته واستقلاله وامتلاك قراره الذاتي وتفجير كل الطاقات الكامنة فيه. 

أدرك أيضا التحديات الصعبة داخليا وخارجيا، ومعوقات النهوض والتقدم، قرأت التاريخ مثلك واستخلصت عبره، ودرست صعود وانهيار الحضارات، وقاتلت من موقعي كصحفي وكاتب ومثقف معارك الوطن، ما وسعني الجهد وأسعفتني الطاقة.. ولم أبال أبدا برضا أو غضب أي نظام، فالأنظمة إلى زوال والأوطان إلى بقاء.

علق المصريون آمالا عريضة عليك، بعضها تحقق وبعضها خاب، شأنك شأن أي زعيم حقق ما استطاع، تاركا التاريخ يحكم إن كان قصر أو بذل أقصى مافي طاقته لرفعة وطنه، وبقي أمل أخير أرجو ألا يخيب، حتى لانكون "كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثا".

أصدقك القول أن مقترح تعديل الدستور خطيئة، تتصاغر بجانبها كل الخطايا، ربما باستثناء تيران وصنافير، هذا إن أقررت أنك ككل البشر تخطيء وتصيب، وأظنك لا تستسيغ – أنت ولا غيرك ممن حكموا - أن تضع نفسك في منزلة الفاروق عمر، فهو من هو ومع ذلك اعترف بالخطأ.

لا يغرنك من يزينون لك، هذه التعديلات التي سيكون لها مابعدها، فهم أول من يتخلى عنك، إن تغيرت الظروف أو تكالبت عليك الخطوب – لاسمح الله -، تأكد أنهم ليسوا مدفوعين بمحبة لشخصك ولا بمحبة تفوق محبة غيرهم لاستقرار الوطن ونهوضه، وإنما بعضهم مدفوع بمصالحة الشخصية التي تتحقق له في عهدك، وبعضهم مدفوع بالخوف من سطوة الأجهزة، وبعضهم يتعامل بمنطق "دعوها فإنها مأمورة" وأن التعديلات ستتم سواء عارضها أو أيدها، ومن ثم لا يجد في معارضتها نفعا لشخصه، خاصة بعدما رأى الإعلام "المسير" ينهش كل من يجاهر برأي معارض.

هذه التعديلات لا تصون استقرار الدولة، بقدر ماتثبت مصداقية من يناصبونك العداء، فالاستقرار المبني على الخوف مجرد سراب أو شرك. والاستقرار الحقيقي يتحقق حين يتراضى الشعب بمحض إرادته الحرة على شيء.

هذه الإرادة الحرة غير متحققة مادام أصحاب الرأي، يمنعهم الخوف من إبداء رأيهم، وملايين يمنعهم الأمن من الاحتجاج والتعبير عما يعتقدون بما هو أنفع للوطن وأزكى لمستقبله. والعشرات الذين شاركوا في النقاش تحت قبة البرلمان ليسوا تعبيرا منصفا عن الشعب، فغالبيتهم زايدوا على التعديلات وطالبوا بالمزيد.. وقليل منهم انتقدوا وحذروا، وجميعهم كان اختيارهم بناء على فرز أمني للإيحاء بحدوث نقاش حر، غير مدركين أن وعي الشعب وذكاءه يجعله على يقين أن ماجرى مجرد مسرحية عبثية.

تتحقق الإرادة الحرة، حين يذهب الناس إلى صناديق الاستفتاء دون خوف من عصا ولا طمع في جزرة، وهذا غير متحقق مع مئات آلاف اللافتات التي استبقت الانتهاء من الصياغة النهائية للتعديلات، وتطالب بعمل "إشارة الصح" دون أن تتاح الفرصة ولا المناخ السائد لتعليق لافتة يتيمة تدعو إلى التصويت بـ"لا".

ربما لم يبلغك أن أحزابا مقربة، تعد العدة لتوزيع مواد غذائية على الذاهبين للاستفتاء، وبعضها شرع في توزيع أنصاف بونات على الناخبين المفترضين.. ويحتفظ بأنصافها الثانية لما بعد إدلاء الحاصلين عليها بأصواتهم .. هذه البونات تتيح لهم شراء أي شيء من أماكن محددة في حدود مئة وخمسين جنيها، بل يتناقل الناس أن جهات تؤجر شبابا وفتيات لمجرد التزاحم في أيام الاستفتاء أمام اللجان.

أعرف أن هذا الخطاب سيضعني في مرمى سهام أعدائك وأنصارك على السواء، فأعداؤك يعرفون أن هذه التعديلات "هاوية" يفرحهم وقوع السلطة فيها، وأنصارك يختزلون فيك الوطن ويعتبرون أي انتقاد لسياساتك خيانة له، لكنك وأنت ابن مؤسسة صانعة للأبطال الوطنيين، تدرك أن اختزال الوطنية في شخص أو خيار سياسي إنما هو "نوع من الرمي بسهم في غير موضعه"، فالوطن أكبر وأبقى وجميعنا جنود نفديه ونفنى في سبيله، لا نطلب منه أن يفنى في سبيلنا. وخطوة التعديلات تردنا عقودا إلى الوراء وتمثل كابحا للتقدم والانطلاق نحو مستقبل ننعم فيه بالحرية وتداول السلطة عبر صناديق اقتراع نزيهة.

النواب والصحفيون والإعلاميون والحزبيون ورجال السلطة الذين يهللون للتعديلات دون بصيرة، أو وجدوا أنفسهم مجبرين بضغط من المناخ العام على لعب دور "مهرجي البلاط" وزينوا لك هذه التعديلات أو اجتهدوا في اختراع تخريجات لم يعرفها تاريخ الدساتير، هم أول من يضرون بك وبالوطن، صدقني كانوا سيفعلون ذلك مع أي رئيس "نقيض" إن توافر نفس المناخ، فلا تركن إليهم ولا تعتمد على ولائهم، فهم إن غيرت رأيك ستكتشف حقيقة رأيهم.

 هذه التعديلات تنسف صورتك كرجل خاطر ذات يوم من أجل مصر.. وانتصارا لإرادة غالبية شعبها، وتبدل صورتك – على نحو ما يريد أعداؤك - إلى رجل كانت مخاطرته من أجل أن يبقى لما شاء الله في كرسي الحكم، رجل يحنث بالقسم الذي أقسمه، والوعود التي قطعها على نفسه بألا يبقى يوما واحدا في السلطة على غير إرادة الشعب أو فوق مدته الدستورية.

يجدر بك أن تأمر فورا بوقف الاستفتاء والتوقف عن كل إجراءات العبث بالدستور، وأن تحول دستور 2014 الذي ارتضيته يوما واعتبرته "انجازا وطنيا" وارتضاه 97% من المصريين بإرادة حرة، من مجرد نص إلى واقع يطبق، والتخلص من "الحاشية القريبة والبعيدة" القادرة على إفساد نبي، والتي زينت وتزين لك تغيير الدستور.

إن فعلت ذلك تكون قد قطعت بمصر خطوات نحو دولة مستقرة، يهابها أعداؤها ويحترمونها قبل أصدقائها، وخير لك أن تعيش مواطنا حرا في دولة حرة، عن أن تتحول إلى خائف في دولة متهمة بأنها تحولت إلى جمهورية خوف، ولو كنت على رأس السلطة.

وليس أكثر عبرة مما جرى في الجوار القريب والبعيد، قارن بنفسك بين مصير نيلسون مانديلا الذي حرر شعبه من ربقة العبودية للبيض، كيف تحول إلى حكيم للعالم، وعاش ومات معشوقا لشعبه، ومقدرا في العالم أجمع، بعد أن اكتفى بفترة رئاسية واحدة، ومصير المشير عمر البشير الذي قضى ثلاثين عاما في السلطة، وأجبر على الرحيل عنها، مشيعا بغضب شعبه. 

تأمل سيرة الرجلين، بما عرفت به من حزم ورجاحة رأي، واختر لنفسك ماتحب!
---------------------
بقلم: مجدي شندي

مقالات اخرى للكاتب

تباريح | مصر ليست مجرد أغنية!





اعلان